vendredi 25 juin 2021

 

إميل دوركايم و المقاربة الوظيفية في علم الاجتماع التربوي

1- مقدمة:

ولد إميل دوركايم بإبينال سنة 1858 و توفي بباريس سنة 1917، و يعتبر وريثا للنظرية الوضعية و من رواد الحركة العلمية في عصره. و لعل شغفه بعلم الاجتماع، هو الذي جعله يسافر إلى ألمانيا حيث تتلمذ على أقطاب مفكريها أمثال “شمولر” و “فونت”، و شغل كرسي علم الاجتماع و التربية بجامعة بوردو و السوربون. و قد ترك دوركايم مؤلفات و بحوث كثيرة، نشر بعضها في حياته، و نشر أتباعه البعض الآخر بعد وفاته. 1
تبنى إميل دوركايم الطرق و الغايات، فبالنسبة إليه: الطرق هي التي تأخذ العلوم الطبيعية نموذجها، و الملاحظة للتعرف على قوانين و وظيفة و تحول المجتمعات، و اعتبار الأحداث الاجتماعية كأشياء تكشف من خلال الرموز الموضوعية المتجسدة في الإحصاء. أما الغاية فتتمثل في التعرف على الاضطرابات و الاختلالات الوظيفية المحتملة، كما هو الأمر بالنسبة للتشخيص الطبي.

2- التربية من منظور دوركايم :

يعرف دوركايم التربية بقوله:

« هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ذلك ناضجة للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة و تنمية عدد من الاستعدادات الجسدية و الفكرية و الأخلاقية عند الطفل، و التي يتطلبها المجتمع السياسي في مجمله والوسط الخاص الذي يوجه إليه».2

من خلال هذا التعريف يمكن أن نقول أن دوركايم يرى أن التربية تقتصر على الأجيال التي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية و أنه جعل العلاقة تحدث بين شخصية الراشد و الطفل، و أقر كذلك بأن غاية التربية في نظره ليست تكوين الفرد من أجل ذاته بل من أجل المجتمع في الدرجة الأولى، و اعتباره التربية عملية حفظ التراث الثقافي و نقله من جيل إلى آخر.
يقول دوركايم:

« والإنسان الذي يجب أن تحققه التربية فينا، ليس هو الإنسان كما خلقته الطبيعة، ولكن كما يريد المجتمع أن يكونه، ويريده كما تقتضي ذلك نيته الداخلية».3

إن تصور دوركايم للتربية كظاهرة سوسيولوجية لا ينفصل عن تصوره العام للظاهرة الاجتماعية، وهي أن التربية تتميز باستقلالها عن الفرد و بأسبقيتها عليه و عموما فهي تتسم بخاصيتي الخارجية و القهر، لأن النظام الاجتماعي يفرض معايير أخلاقية و عادات تربوية يلزم الأفراد و الجماعات بالامتثال لها و التكيف معها و إلا تعرضوا بفعل ذلك للعقاب. وفي اختلاف التربية حسب المستويات الاجتماعية يقول دوركايم:

« وحتى اليوم ألسنا نرى أن التربية تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، وحتى باختلاف الجهات الجغرافية؟ فتربية المدينة ليست كتربية البادية، و تربية البرجوازية ليست كتربية العامة، يمكن القول إن هذا النظام لا تقره الأخلاق، وأنه من البقايا التي لن تلبث أن تزول، ومن السهل الدفاع عن هذه الفكرة. واضح أن تربية أطفالنا يجب ألا تكون رهنا بالمصادفات التي تجعل مساقط رؤوسهم هنا و هناك، وتجعلهم يولدون في هذه الأسرة أو تلك، لكن حتى لو وجد الضمير الخلقي المعاصر الإرضاء الذي ينتظره في جعل التربية متشابهة… فإن تنوع المهن المعنوي يكون سببا في تنوع بيداغوجي كبير».4

وفي دراسته للمواقف التي ينبغي اتخاذها لتربية أخلاق التلاميذ، انطلاقا من تعليم موافق لعقلياتهم يقول:

« الواجب هو الخلق في أمره وفي نهيه، إنه المستودع الذي ينبغي الخضوع له، فالخير هو الخلق باعتباره يظهر لنا كشيء جيد و كمثل أعلى مرغوب فيه، و الذي نتطلع إليه بمحض إرادتنا. و وحدهما فكرة الواجب و فكرة الخير كونهما مفهومين مجردين، عندما نربطهما بواقع حي، يحتاجان إلى كل ما يمكن أن نخاطب به العقول و القلوب، وخصوصا عند الأطفال. ولا شك أن كل فرد له شعور حي اتجاه الأشياء الخلقية، و يمكن أن يتحدث عنها بكل حماس».5

و يمكننا تلخيص الأفكار التربوية لدوركايم في أربع نقط رئيسية:

  • كل نظام تربوي عبارة عن مؤسسة اجتماعية، فمن خلال التحليل التاريخي لهذا النظام يتبين أن البنية الاجتماعية هي المحددة و المسؤولة عن تأسيسه و استمراريته و تغيره و مسؤولة عن مضامينه و أشكاله.
  • إن الغاية التي يهدف إليها النظام التربوي هي التنشئة و التي تتحدد تخصصاتها من خلال البنية الاجتماعية كذلك.
  • إن هذا التلازم بين البنية الاجتماعية و النظام التربوي ليس مطلقا، لوجود نوع من الاستقلالية النسبية الذاتية لهذا النظام.
  • يعتبر هذا النظام التربوي أداة في الصراع الإيديولوجي و التي تختلف فعاليته تبعا للفترات و اللحظات التاريخية. 6

وفيما يلي خطاطة تمثل تعريفا لكلمة تربية كما وردت عند دوركايم في كتابه ” تربية و سوسيولوجيا” :

تربية وسوسيولوجيا

3- الضمير الجمعي أو الوعي الجماعي عند دوركايم:

يعد المجتمع في تصور دوركايم، ذلك “الوعي الجماعي” الذي يعتبر من الألفاظ المعروفة في سوسيولوجيا دوركايم، فهي عبارة عن كينونات عادية، قبل أن يكون لها وجود ملموس أو مألوف. و الأحداث الاجتماعية هي عبارة عن أشياء أو أمور أخلاقية، إذ ليس هناك مجتمع مجرد من جسم القوانين و الممنوعات و المقدسات. إن هذه الأشياء الأخلاقية، هي التي تكَوٍّن فيه الجوهر، لأن التفوق الأخلاقي للمجتمع على الفرد هو الذي يقدم خاصية كاملة سليمة و مقبولة.
بالنسبة لدوركايم، فإن المراقبة الاجتماعية للأفراد تعتبر أمرا ضروريا حتى لا ينهار هذا الأخير من جراء وفرة الحرية، لأن المجتمع السليم، لا يمكن أن يتحقق تفتحه و نموه إلا بالاندماج ضمن بيئة تتفوق و تعلو عليه.
والمجتمع السليم، هو الذي يخيم عليه نوع من الإجماع، كما أن الحالة العادية لمجتمع ما، هي التي يتوفر فيها نمو التلاحم بين أعضائها، أما نمط الضبط العادي للتلاحم فإنه يختلف باختلاف درجة تحضر ذلك المجتمع و بدرجة الاختلاف القائمة داخله. كما يعتبر تبادل خدمات المشاركين في العمل الجماعي من أهم عوامل التلاحم العضوي و الوظيفي لكل مجتمع من المجتمعات. و القول بالتغيير الاجتماعي عامل أساسي لتجاوز الأزمات و الاضطرابات المختلفة، و يحيل على عملية عزل متغيرات هذه الاضطرابات التي تدخل في المهام التي يقوم بها السوسيولوجي.7

4- التنشئة الاجتماعية:

يعتبر دوركايم أول من استعمل مفهوم التنشئة الاجتماعية في إطار نظري و منهجي من خلال أعماله السوسيولوجية الخاصة بالتربية، فقد حاول تجاوز الأطروحات الفلسفية المثالية و المجردة التي كانت سائدة فيما قبل عند كل من “كانط Kant” و “هربرت سبنسر Herbert Spencer “.
وبالنسبة لتوجهه السوسيولوجي، فإن عملية التنشئة الاجتماعية الموجهة أو المفروضة، تعتبر من الأمور الضرورية لاستمرار النمو و التطور الاجتماعي، لأن الفرد في انعزال عن المجتمع، يكون عاجزا على تحقيق ذلك التطور و النمو. إذ ليس هناك مجتمع مجرد من جسم القوانين و الممنوعات و المقدسات، فهذه الأمور الاجتماعية، هي التي تكون فيه الجوهر. كما أن للمجتمع تفوق أخلاقي على الفرد، باعتباره يمتلك خاصية كاملة سليمة مقبولة. أما حرية الأفراد، فإنها إذا توفرت لديهم فإنها تساهم في تدميرهم. ولذلك يرى دوركايم بضرورة المراقبة الاجتماعية للأفراد، حتى يتمكنوا من تحقيق تفتحهم و نموهم عن طريق الاندماج ضمن بيئة اجتماعية تتفوق و تعلو عليهم.
بتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي على الأجيال الصاعدة، نكون قد وفرنا مناخا سليما لظهور مجتمع يخيم عليه نوع من الإجماع، ذلك أن الحالة العادية هي التي يتوفر فيها نمو التلاحم بين أعضاء المجتمع. أما أنماط الضبط، فإنها تختلف باختلاف درجة تحضر المجتمع و بدرجة تلاحمه.8

5- خلاصة:

لقد أتت المرجعية السوسيولوجية الوظيفية لدوركايم بمفاهيم و تصورات حول التربية، لعل من أهمها تعريفه لهذه الأخيرة وأفكاره المتعلقة بالنظام التربوي، كما تطرق للتنشئة الاجتماعية و أهمية الوعي الجماعي في تكوين شخصية الفرد عن طريق نقل الإرث الثقافي الجماعي مع تأكيده على خاصيتي القهر و الخارجية ولذلك فالفرد حسب دوركايم ليس إلا ذلك الامتداد المنطقي للمجتمع.

 


مراجع:

1- مصطفى الخشاب، تاريخ التفكير الاجتماعي و تطوره، ص 269

2- E. Durkheim, éducation et sociologie, p 41
3- J. Leif et Rustin, Philosophie de l’éducation, T.I ed, Delagrave, 1970, p 115-116
4- Emile Durkheim, éducation et sociologie, 4éme ed de la nouvelle ed, 1982, Puf, p 47.
5- Emile Durkheim, éducation morale, ed. nouvelle Alcan, 1938, p 107
6- Mohamed Cherkaoui, socialisation et conflit, les système éducatifs et leur histoire selon Durkheim, Revus Française de sociologie, 1976, page 198.

7- عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا التربية، منشورات عالم التربية، 2000، ص 36-37.
8- عبد الكريم غريب ،نفس المرجع السابق، ص 111-112.

 

التربية و البيداغوجيا في فكر إميل دوركايم / خالدي مسعودة

د .خالدي مسعودة/جامعة زيان عاشور، الجلفة، الجزائر   

ملخص 

بالرغم مما يلاقيه الباحث في موضوع التربية من مشقة و تعب، و ما يصادفه من عقبات ، فإننا نرى أن هذا الموضوع أولى بالدراسة و أحوج إلى البحث، باعتباره هاجسا مسكونا بالقلق لتعدد خطاباته و تعقد موضوعاته و قضاياه، و نظرا للتطور الذي عرفته سوسيولوجيا التربية، و الذي أدى إلى ظهور مجموعة من النظريات التي مكنت من بروز عدة مقاربات سوسيولوجية في المجال التربوي داخل المجتمع الحديث، فقد ارتأينا، في هذا البحث، الوقوف عند الاتجاه النظري الأول ضمن هذه المقاربة، و هو الاتجاه الاصلاحي الانساني لعالم الاجتماع الفرنسي ” إميل دوركايم “، الذي يعد أول من قام بوضع اللبنات الأولى لسوسيولوجيا التربية على الرغم من وجود مفكرين آخرين سبقوه تنبهوا إلى الوظيفة الاجتماعية للتربية، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى التصور السوسيولوجي المتكامل للظاهرة التربوية، حيث ظلت تصورات هؤلاء مؤطرة  ضمن توجهاتهم الفلسفية و الفكرية العامة و التي شكلت في الواقع المقدمات الفكرية للمشروع السوسيولوجي.

الكلمات المفتاحية : التربية ؛ التربية التقليدية ؛ البيداغوجيا ؛ السوسيولوجيا.

Abstract :

In spite of the researcher’s difficulties in dealing with the subject of education and the difficulties encountered, we see that this subject is first studied and is in need of research as a preoccupied concern for the multiplicity of speeches and the complexity of its subjects and issues. In view of the development of sociology of education, Which led to the emergence of a set of theories that enabled the emergence of several sociological approaches in the field of education within modern society, we have considered, in this research, stand in the first theoretical direction within this approach, and is the human reformist trend of the French sociologist, “Emil Dorkaim”, Who is the first to put the brick Despite the existence of other intellectuals who preceded it, they were aware of the social function of education. However, this was not at the level of the sociological perception of the educational phenomenon. Their perceptions were framed within their general philosophical and intellectual orientation, .

Keywords: education; traditional education; pedagogy; sociology.

 

مقدمة:

لعل ما يدور في أروقة المشهد التربوي العربي من إرهاصات و محاولات إصلاحية يثير تساؤلات و يطرح اشكاليات تتعلق بواقع النظم التربوية السائدة و مستقبل التربية و التعليم في زمن تتدفق المعلومات بصورة أسرع مما يتوقعه الخبراء.

لقد أصبح مصير الإنسان الشخصي في هذا العصر ملتحما مع المصير العام الذي يحكم هذا الكوكب و تشابكت العلاقات بين الأفراد و الجماعات و الدول و الأمم داخل منظومة شاملة.

ولعلم الاجتماع دور تربوي رائد في فهم قضايا العصر و منها مصير الإنسان داخل هذه المنظومة و حل مشكلاته الخاصة و العامة فهو – أي علم الاجتماع – يضطلع بمهمة فهم ظروفه من أجل استشراف مستقبله و تأمين الظروف الديمقراطية لتطوره و ازدهاره و سعادته و خاصة في هذا العصر – عصر العولمة – حيث تزخر الساحة العالمية بالكثير من الأحداث و المتغيرات المختلفة اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا.

من هنا تغدو محاولة التربية في فهم واستيعاب هذه المتغيرات العولمية من الضروريات التي يتطلب التعامل معها بإيجابية  وتأمل و روية. فعالم اليوم بات من التعقيد و التشابك بحيث تغيرت الرؤى و تنوعت الاستراتيجيات

نحن في حاجة إلى قراءة سوسيولوجية للنظريات و تعديلها وفقا لمقتضيات الثوابت  و متطلبات  المصالح و تشابك العلاقات مما يستدعي اعادة النظر في الفكر التربوي السائد بما يتطلب من تحليلات أعمق ورؤى ثاقبة، و فكر تنويري   و فهم تحليلي.

من هذا المنظور ارتأينا في بحثنا هذا الوقوف عند أول اتجاه نظري ضمن المقاربة السوسيولوجية لظاهرة التربية وهو الاتجاه الإصلاحي الإنساني لعالم الاجتماع الفرنسي ” إميل دوركايم ” ، باعتباره أول من وضع اللبنات الأولى لسوسيولوجيا التربية على الرغم من وجود مفكرين آخرين سبقوه (هربرت سبنسر، جون جاك روسو، جون ستيوارت مل…)  تنبهوا إلى الوظيفة الاجتماعية للتربية ، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى التصور السوسيولوجي المتكامل للظاهرة التربوية، حيث ظلت تصورات هؤلاء مؤطرة  ضمن توجهاتهم الفلسفية و الفكرية العامة و التي شكلت في الواقع المقدمات الفكرية للمشروع السوسيولوجي .إلى أن جاء ” إميل دوركايم ” و أرسى القواعد المنهجية و العلمية لعلم الاجتماع و جعل الشأن التربوي جزءا لا يتجزء من مشروعه العلمي و السوسيولوجي.

نبذة عن حياة ” إميل دوركايم ” و الاتجاهات الفكرية التي بلورت تفكيره:

يعتبر ” إميل دوركايم ” أحد دعائم الحركة العلمية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين .     و هو مؤسس علم الاجتماع الحديث و زعيم المدرسة الفرنسية الوظيفية لعلم الاجتماع حيث استطاع أن يترك بصماته في تاريخ الفكر التربوي الفرنسي عبر مسيرته المهنية في مجال التعليم و من خلال أعماله التربوية المعروفة:

- التربية و المجتمع (Education et sociologie) نشر لأول مرة سنة 1922

- التربية الاخلاقية ( Education morale) كان في 1902 – 1903 و هو عبارة عن محاضرات في التربية ألقاها ” إميل دوركايم ” في جامعة السوربون و تم نشرها سنة 1925 بفضل عناية تلميذه بول فوكونيه  Paul Fauconnet.

- التطور التربوي ( l’évolution pédagogique en France)  نشر سنة 1938.

من أهم العوامل التي شكلت تفكير ” إميل دوركايم ” :

- المذهب العقلاني عند ديكارت بتأكيده القوي للتحليل الصوري.

- عصر التنوير الذي يعد بعصر جديد يتحقق فيه الاستخدام الحر للعقل

- وضعية أوغست كونت التي أثارت الطريق لوجود علم جديد للمجتمع بمنهجه و مدخله و اتخذ مكانا مع العلوم الأخرى في قدرته على اكتشاف القوانين و استخلاص التعميمات و القيام بالتنبؤ.

- نظرية التطور التي ساعدت ” إميل دوركايم ” في رؤية المجتمع في ضوء النمو العضوي و تشابك الأجزاء.

كل هذه العوامل ساعدت ” إميل دوركايم ” على إرساء القواعد المنهجية و العلمية لعلم الاجتماع و جعلته يرد بقوة على علم النفس الذي كان يفسر القوى التي تحرك المجتمع في ضوء الدوافع السيكولوجية و الغرائز و الإشباعات[1] .

كان ” إميل دوركايم ” كأي كلاسيكي مرآة شمولية لعصره و عقيدته انعكاسا للمرحلة التاريخية التي عاشها و هي مرحلة الجمهورية الثالثة ، عصر التعليم العلماني و هو العصر الذي شهدت فيه العلوم الانسانية عهد ازدهارها و تطورها.

إن رؤيتنا الخاصة لنسبية آراء ” إميل دوركايم ” في المرحلة التي نعيشها تنسجم إلى حد كبير مع منظور ” إميل دوركايم ” إلى نسبية الأفكار و هو الذي لم ينقطع يوما عن التنويه إلى أهمية تطور المفاهيم و التصورات التربوية، في مجرى العصور التاريخية تحت تأثير عوامل الحياة الاجتماعية بالدرجة الأولى.

” إميل دوركايم ” و التربية:

يعتبر علم إجتماع التربية فرعا من فروع علم الاجتماع الذي يدرس التربية كظاهرة اجتماعية هذه المقاربة مفادها إعادة إنتاج النظريات و القوانين السوسيولوجية من خلال عملية تحليل تفاعل العناصر التربوية داخل نسقها الاجتماعي.

و لقد أدى تطور علم إجتماع التربية إلى بروز عدة اتجاهات نظرية ساهمت في تنويع المقاربة السوسيولوجية لظاهرة التربية في المجتمع الحديث.

في بحثنا هذا سنحاول الوقوف على تصور ” إميل دوركايم ” للتربية و سنعرض موقفه من التربية إنطلاقا من المحاور التالية:

- موقف ” إميل دوركايم ” من التربية التقليدية.

- التربية عند ” إميل دوركايم “.

- الطابع الاجتماعي للتربية.

- البيداغوجيا.

- البيداغوجيا و السوسيولوجيا.

1- موقف ” إميل دوركايم ” من التربية التقليدية:

حاول ” إميل دوركايم ” أن يبني مشروعه السوسيولوجي – التربوي- بدءا من نقده لمختلف المفاهيم و التحديدات التي اتخذتها التربية عند العديد من الفلاسفة و المفكرين أمثال ستيوارت ميل، إمانويل كانت، جيمس ميل، سبنسر …       و غيرهم تلك التحديدات التي أضفت على التربية صبغة مثالية شمولية تجاوزت بها حدود الزمان  والمكان دون ربطها بسياقات سوسيوتاريخية محددة.

نأخذ على سبيل المثال:

-  التربية حسب ستيوارت ميل Stuart Mill

” تضم التربية كل ما نفعله لنفسنا أو ما يفعله الآخرون لنا من أجل الاقتراب إلى كمالية طبيعتنا. وفي معناها الواسع تضم (التربية) كذلك جميع التأثيرات غير المباشرة على طبائع وقدرات الإنسان من طرف أشياء ذات هدف مختلف تماما بواسطة القوانين، أشكال الحكم الفنون الصناعية، وحتى بواسطة أشياء فيزيائية مستقلة عن إرادة الإنسان مثل المناخ التربة والوضع المحلي.”

-  التربية حسب إمانويل كانت : Emanuel Kant

” التربية فن تكون الممارسة فيها في حاجة إلى تطوير عبر عدد كبير من الأجيال، كل جيل ينقل معارفه لغيره ويحمل معارف جيل أو الأجيال السابقة. ستعمل هذه المعارف على إدخال الإنسان إلى العالم، وعليه أن يطورها بنفس ليطور سعادته أو شقاءه “

-  التربية حسب جيمس ميل: James Mill

” التربية هي جعل الفرد أداة السعادة لنفسه ولغيره “، حيث أن السعادة شيء ذاتي كل شخص يقيمه بطريقته الخاصة. ” شروط السعادة هي نفسها شروط الحياة السعادة الكاملة هي الحياة الكاملة” Spenser.

كمحصلة لجملة الانتقادات التي وجهها ” إميل دوركايم ”  لسابقيه ممن نظروا للتربية يقول أن ” لكل مجتمع في الواقع و في لحظة ما من مستويات تطوره، نظام تربوي، يفرض نفسه على الأفراد عبر قوة لا تقاوم و من الخطأ أن نعتقد بأننا نستطيع تربية أطفالنا بالطريقة التي نرغب فيها أو نريدها. فهناك عادات و أعراف يجب علينا أن نخضع لحكمها .   و عندما نحاول أن نخرج عنها بقوة فإن ذلك ينعكس سلبا على حياة أطفالنا. و تظهر نتائج ذلك عندما يصبح أطفالنا راشدين حيث لن يستطيعوا التكيف مع أقرانهم و ذلك لأنهم ليسوا في وضعية تسمح لهم بتحقيق ذلك التكيف. و ذلك يعني أنه عندما نربي أطفالنا وفقا لأفكار قديمة جدا أو سابقة للعصر، فإنهم في الحالتين لا ينتمون إلى زمنهم و بالنتيجة فإنهم لا يوجدون في إطار شروط حياة طبيعية. ففي كل لحظة من الزمن يوجد نموذج منظم للتربية لا يمكن لنا أن نستبعده دون مجابهات قوية تترتب عليها نتائج قاسية.

فالأفكار و العادات هي التي تحدد النموذج التربوي السائد. و لسنا نحن  الذين نقوم بإعداده على المستوى الفردي، إذ أنه في نهاية الأمر نتاج للحياة المشتركة و تعبير عن الضرورات الأساسية للحياة الاجتماعية.

و هو في المحصلة نتاج لنشاط الأجيال السابقة بالدرجة الأولى. و لقد أسهم تاريخ الإنسانية برمته في إيجاد هذه التراكمات التى توجه التربية المعاصرة ، و إذا كان تاريخنا قد ترك لمساته فإننا لا نستبعد بالإضافة لذلك الأثر الذي تركه تاريخ  المجتمعات التي سبقتنا في الوجود.1

ووعيا من” إميل دوركايم ” بهذا الإشكال حاول في مقابل ذلك تحديد التربية كفعل اجتماعي يتم و يمارس في مجتمع محدد وفي لحظة تاريخية معطاة ووفق الأهداف العامة التي يضعها كل مجتمع لنفسه كمشاريع يضع على عاتقه مهمة تحقيقها.بهذا يمكن القول أن ” إميل دوركايم ” هو أول عالم اجتماعي فرنسي تنبه بحس سوسيولوجي نقدي كبير، إلى طبيعة تلك العلاقة النوعية الرابطة بين التربية و النظام الاجتماعي و من ثم وسم الظاهرة التربوية بمثل ما وصف به الظاهرة السوسيولوجية عموما و اعتبرها واقعة اجتماعية مستقلة عن وعي الأفراد1.

و بالتالي قابلة للدراسة العلمية الموضوعية بل يمكن القول إن المشروع السوسيولوجي الدوركايمي في عمقه مشروع تربوي.

2-  التربية عند ” إميل دوركايم “:

حسب تعريف ” إميل دوركايم ” في كتابه التربية و المجتمع ” فإن التربية هي كل ما نفعله نحن بأنفسنا و كل ما يفعله الآخرون من أجلنا و ذلك بهدف الاقتراب من تحقيق كمالنا الخاص بطبيعتنا و يتضمن ذلك التصور على العموم جملة التأثيرات غير المباشرة ، التي تؤثر في ملكات الإنسان و ذلك بتوسط أشياء متنوعة مثل القوانين، و أشكال الحكم ، و الصناعة و الظواهر الفيزيائية التي توجد بشكل مستقل عن إرادة الإنسان مثل المناخ و التربة و الوضعية الاجتماعية .

ومن البين ان ذلك التعريف يجمع بين أمور متناقضة إلى حد كبير و لا يمكن لنا بسهولة أن نجمع بين هذه العناصر في إطار واحد دون أن نقع في مصائد التداخل . إن تأثير الأشياء في الناس يختلف لدرجة كبيرة عن التأثير الذي يباشره الناس في الناس و ذلك على مستوى الوسائل كما في مستوى النتائج و على المنوال ذاته فإن تأثير المعاصرين في المعاصرين يختلف كثيرا عن تأثير الرشدين في الصغار . و يتوجب علينا في هذا المقام ان نركز على أهمية الجانب الأخير من المسألة أي على التأثير الذي يمارسه الكبار في الصغار حيث يمثل ذلك قطب اهتمامنا و محوره. و ذلك لأن كلمة تربية هي الكلمة الوحيدة المناسبة للدلالة على العلاقة بين الراشدين و الصغار”2.

يتبين لنا إذن من خلال هذا التحديد للتربية أنها عبارة عن “وظيفة اجتماعية بالذات”  وأنها ” الفعل الذي يمارسه جيل الراشدين على جيل أولئك الذين لم ينضجوا بعد للحياة الاجتماعية والغرض منها أن تثير وتنمي لدى الطفل عددا معينا من الحالات الجسدية والعقلية والأخلاقية يتطلبها منه المجتمع السياسي بمجموعه والبيئة و أيضا عبارة عن عملية تنشئة منظمة تجعل من كل الأفراد كائنات فردية ومجتمعية في نفس الوقت بمعنى تزودهم بما يهم حاجاتهم الشخصية من استعدادات وحوافز لتحقيق كياناتهم الفردية من جهة أولى، ومن جهة ثانية تزودهم بمختلف الأفكار والإحساسات والقواعد التي تعبر عن ثقافة المجموعات الاجتماعية وتساهم هذه الأدوات “التجهيزية ” في تشكل الكائن الاجتماعي.

ويعتقد إميل ” إميل دوركايم ”  بأن غرس المظاهر الجماعية في الفرد بواسطة التربية هو ما يحدد هدف التربية، ومهمة التربية في نظره تكمن في أن ينتقل الفرد من وضع أناني غير اجتماعي إلى الوضع اجتماعي، أي أنها تخلق فيه روحا جديدة تجعله قادرا على تحمل حياة الجماعة، فالتربية تجعل الإنسان ينتقل من وضع يكاد يكون مشابها لوضع الحيوان، إلى وضع رفيع المستوى يتحكم فيه العقل ويؤهل الشخص إلى أن يلعب دورا إيجابيا في تطور المجتمع بصفة عامة. وبفضل تراكم معارف أجيال الماضي، أصبحت الثقافة العلمية على سبيل المثال من الضروريات والأولويات ولم تعد فقط من الكماليات بالنسبة للإنسان والمجتمع.

3- الطابع الاجتماعي للتربية:

المجتمع البشري هو بالأصل تجمع لأفراد وفئات وجماعات تعيش وتتعايش فيما بينها بمنطق التعاضد والتدافع كل فرد فيها هو بنية عقلية وسيكولوجية، وكل جماعة هي وحدة علائقية ومصالحيه. وكلما كبر حجم المجتمع زاد تعقده وراحت تهدده نوازع التفكك والانحلال. والمجتمع الذي هذا هو حاله لا يمكن أن يستمر في الوجود فضلا عن الارتقاء والتطور والالتحام بين الأفراد والإحساس بروابط الجماعة، وهذا هو دور التربية التي تحتل موقعا مركزيا في مقاربة هذه الوقائع الاجتماعية التي تتشابك داخلها المراتب البيولوجية والنفسية والجماعية.

إن أهمية التربية، كما يراها ” إميل دوركايم ” ، لا تكمن فقط في نقل المعارف واكتساب التلميذ مهارات مهنية، بل في إشاعة وتثبيت الروح العامة الخاصة بمجتمع معين يعيش صيرورة الانتقال التاريخي، بما يكفل اتزان النسق واستقراره وتوازن المجتمع واستمراره. و من هذه المنظور تصبح غايتها اجتماعية في أساسها ولها صلة قوية بالتماسك الاجتماعي .”1

يرى ” إميل دوركايم ” أنه ليست هناك تربية صالحة وكاملة بالنسبة لكل المجتمعات ولكل الأزمان؛ فكل مجتمع في لحظة محددة من تطوره يملك نظاما للتربية يفرضه على الأفراد بقوة لا يمكن مقاومتها عامة، وهذه القوة كما رأينا هي الدولة باعتبارها المشرف الوحيد على التربية وذلك عبر تأمينها للمواطنين وحدة كافية من الحقوق في التعبير عن شعورهم وأفكارهم بطريقة حداثية تنأى عن كل عتيق أو مسبق وعن كل إكراه أو عنف عدواني.

وبما أن التربية في نهاية المطاف هي ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر فإن الغاية المنشودة منها هي تنمية عدد معين من الحالات الجسمية والذهنية والأخلاقية لدى الطفل وذلك عبر تكوين جيد وتعليم فعال يكرس الوحدة الوطنية وروح التفاعل من أجل تحقيق ما ينبغي أن يكون الراشد .

4-  طبيعة ومنهجية البيداغوجيا:

يقول ” إميل دوركايم ” ” لقد قمنا غالبا بالخلط بين كلمتي التربية والبيداغوجيا “

 فالتربية هو الفعل الممارس من طرف الآباء والمعلمين على الأطفال بحكم الاتصال الدائم بين الآباء والمعلمين من جهة والذين يوصلون بوعي عبر التعليم نتائج تجاربهم إلى الأجيال الناشئة. فهناك تربية لاواعية لا تنقطع أبدا بأمثلتنا بكلامنا، بالأفعال التي نقوم بها، نشكل بشكل مستمر روح أطفالنا.

أما البيداغوجيا: فلا تكمن في الأفعال ، وإنما في النظريات؛ هذه الأخيرة هي أنماط تصور التربية وليس أنماط تطبيقها؛ بل تختلف أحيانا عن التطبيق إلى درجة معارضته. فبيداغوجيا رابيلاي Rabelais  ، ج.ج روسو J.J.rousseau، بيستالوزي  Pestalozzi  تتعارض مع التربية في زمانهم .”2

إن التربية ماهي إلا مادة البيداغوجيا، هذه الأخيرة تكمن في نمط التفكير في أشياء التربية، مما جعل البيداغوجيا متقطعة على الأقل في الماضي، بينما التربية مستمرة. ويتساءل دوركايم إن كانت البيداغوجيا علما، علم التربية؟ أو نعطيها بالأحرى اسما آخر.

فيما يخص عناصر  التربية، فيمكن أن تكون قاعدة تمثل كل خاصيات القواعد العلمية، وهو ما يمكن إثباته بسهولة .

كي نقول أن علما ما هو مجموعة من الدراسات، يجب ويكفي أن تتحقق فيه الخاصيات التالية:

-   يجب أن تنصب على أشياء مكتسبة، محققة وقابلة للملاحظة.

-  يجب أن تكون هذه الأشياء منسجمة فيما بينها بشكل كاف يُمَكن تصنيفها في نفس الفئة.

-   أخيرا، فالعلم يدرس هذه العناصر لمعرفتها فقط. فالعلم يهتم باكتشاف القوانين  وينحصر دوره في وصفها ومحاولة تفسيرها.

وارتباطا بذلك فليس هناك أي سبب يمنع التربية من أن تكون موضوع البحث والدراسة لأنها تمتثل لجميع شروط المعرفة العلمية؛ فهي عبارة عن مجموعة من الممارسات، من أشكال التأثير والعادات… والتي تكوَن أشياء معرفة بشكل جيد ولها نفس حقائق الظواهر الاجتماعية التي هي عبارة عن مؤسسات اجتماعية حقيقية تفرض نفسها على الإنسان.

يضيف ” إميل دوركايم ” ” لا يمكن لكائن حي أن يمتلك أعضاء ووظائف أخرى غير التي تدخل في تكوينه الفيزيولوجي” يضيف فنحن مرغمون على إتباع  القواعد السائدة في المجتمع الذي نعيش فيه ومخطئ من يعتقد أننا نربي أطفالنا كما نريد نحن.

فالقوى الأخلاقية التي نتمرد عليها، تتفاعل ضدنا، حيث من الصعب بحكم قوتها ألا نهزم أمامها.

فالممارسات التربوية ليست أشياء معزولة عن بعضها البعض، لكنها مترابطة بالنسبة لنفس المجتمع  في نفس النظام تتسارع فيه كل الأطراف لتصل إلى نفس الغاية إنه النظام التربوي الخاص بهذا البلد وبهذا الزمان.

من جهة  كل شعب له نظامه الخاص، مثل ما له نظام أخلاقي، ديني، اقتصادي…من جهة ثانية، فالشعوب التي تنتمي إلى نفس النوع أي تتشابه من حيث الخاصيات الأساسية، يجب أن تنهج  أنظمة تربوية متشابهة فيما بينها.

 يضيف ” إميل دوركايم ” أن النظريات التي سماها بيداغوجيا هي تأملات  من نوع آجر فهدفها ليس وصف أو تفسير ما كان أو ما سوف يكون بل تحديد ما يجب أن يكون ؛ فهي ليست موجهة لا للماضي ولا للحاضر بل نحو المستقبل؛ فهي  تبين لنا ما يجب أن يكون.

يخلص” إميل دوركايم ” إلى أن البيداغوجيا شيء آخر غير علم التربية.”1

 ينتقل ” إميل دوركايم ”  إلى مستوى آخر من التحليل بقوله: لنعتبر أن البيداغوجيا فن ؟ لكن لا نرى وسيطا بين طرفي نقيض ، حيث نعطي اسم فن لكل نتاج التفكير الذي ليس هو العلم.

نسمي أيضا فن:” التجربة التطبيقية المكتسبة من  طرف المعلم في اتصاله المباشر بالأطفال، وفي ممارسته لمهنته”

لكن هذه التجربة هي شيء مختلف بشكل واضح عن نظريات عالم البيداغوجيا. فالمعلم الماهر يعرف فعل ما يجب دون أن يعرف دائما الأسباب التي تبرر الطرق المستعملة، عكس ذلك فعالم التربية قد يفتقر لكل مهارة تطبيقية رغم إلمامه بكل ماهو نظري. حيث لم نعهد فصلا دراسيا لا ل: روسوJ.J Rousseau  ولا ل: Montaigne ، وحتى بيستالوزي  Pestalozzi الذي كان رجل المهنة، يمكننا قول أنه لم يكن يملك فن المربي سوى قليلا كما تثبته إخفاقاته المتكررة.

يتابع ” إميل دوركايم ” “يجب أن لا نحدد بنفس الكلمة شكلين مختلفين تماما من الأنشطة. لنخصص إذن كلمة فن لكل ماهو تطبيق خالص بدون نظرية.”

فالفن عبارة عن منظومة من أنماط العمل ( الفعل )، تضبط لغايات خاصة هي نتاج إما لتجربة قديمة منقولة عبر التربية، أو بالتجربة الخاصة للفرد؛ هذه الأنماط لا يمكن اكتسابها إلا عن طريق الممارسة الشخصية.

بلا شك يمكن للفن أن يستنير بالتفكير، لكن هذا الأخير ليس ضروريا له.

لكن بين العلم والفن يوجد موقف ذهني وسيط بمعنى الكلمة، حيث يمكن التفكير في إجراءات التطبيق المستعملة، ليس لفهمها وإنما لتقييمها والتساؤل حول ما كان يجب فعله، وإمكانية تعويضها بإجراءات جديدة.

 تأخذ هذه التأملات شكل نظريات، بحيث هي عبارة عن توليفة من الأفكار وليس الأفعال؛ بهذا الشكل تقترب من العلم. لكن بالمقابل هذه التوليفة من أفكار تهدف إلى توجيه الفعل وليس لتفسير طبيعة أشياء محددة.

إذا كانت هذه الأفكار ليست أعمالا، فهي بالمقابل مخططات أعمال، بهذا الشكل تكون أقرب إلى الفن.

للتعبير عن الخاصية المزدوجة لهذه التأملات التجريدية نقترح تسميتها نظريات التطبيق.

فالبيداغوجيا هي نظرية تطبيقية من هذا النوع لا تهتم علميا بأنظمة التربية، وإنما تفكر في تزويد المربي بأفكار توجيهية.

5-  البيداغوجيا والسوسيولوجيا :

كما سلف الذكر، يعد ” إميل دوركايم ”  أحد رواد السوسيولوجيا العامة والمؤسس الحقيقي لسوسيولوجيا التربية باعتبارها فرعا سوسيولوجيا يهتم بدراسة أنظمة التربية والتعليم، حيث كشف عن العلاقة الوثيقة بين التربية وعلم الاجتماع في محاضرة بعنوان «Pédagogie et sociologie»ألقاها كمدرس لمادة البيداغوجيا بجامعة بوردو.

في هذا الصدد، أولى ” إميل دوركايم ”  أهمية حيوية للمسألة التعليمية خاصة والتربية عامة. وإذا كان معظم علماء التربية ( كانتKant ، ميلMill ، هيربر Herbart، سبنسر Spenser…. ) يرونها – أي التربية – قارة صالحة لتكوين جميع الأفراد باعتبارهم أن الإنسان يملك بشكل فطري وراثي جميع المقومات والملكات التي تسمح له بالتعلم والنمو وما دور المسالة البيداغوجية سوى البحث في الطرق التربوية المناسبة للتأثير على هذه الطبيعة الإنسانية المحددة سلفا.

 إلا أن ” إميل دوركايم ”  يربطها بالزمان والمكان بقوله: “إذا قبلنا بالطبيعة الإنسانية المحددة سلفا، باعتبار أن الإنسان يملك فطريا جميع مقومات التعلم، في هذه الحالة، فالمربي لن تكون له أية إضافة في عمل الطبيعة، ولن يخلق أي جديد، بحيث ينحصر دوره في منع هذه الملكات الموجودة من الانحلال والاختفاء بسبب عدم الاستعمال، ومنعها من الانحراف عن المسار العادي، أو ألا تُنَمَّى ببطء شديد. أما والحالة هذه، فإن ظروف الزمان والمكان، حالة الوسط الاجتماعي ستفقد كل فائدة بالنسبة للبيداغوجيا. وبما أن الإنسان يحمل في ذاته كل بذور نمائه، فإن التركيز سينصب عليه وعليه فقط لنعرف المنحى والكيفية التي بها يجب توجيه هذا النمو. ما يهم هو معرفة المؤهلات الفطرية وطبيعتها. الشيء الذي يجعل من البيداغوجيا مُسَلمة حتمية ومباشرة لعلم النفس .

فالعلم المُخَول له وصف وتفسير الإنسان الفردي هو علم النفس حيث يبدو أنه يجب أن يكون كافيا لعالم التربية.

للأسف هذا التصور للتربية يتناقض بشكل قاطع مع كل ما علمنا التاريخ.

 فقديما كانت التربية تختلف حسب الطوائف  ، فتربية الأسياد ليست هي تربية بقية الرعايا  تربة النبلاء تختلف تماما عن تربية الفلاحين..” وحتى في مجتمعنا هذا  يؤكد ” إميل دوركايم ”  أن التربية تختلف من طبقة اجتماعية لأخرى، تربية  القرية تختلف عن تربية المدينة، كما أن تربية الأغنياء تختلف عن تربية الطبقة العاملة…

يقول ” إميل دوركايم ” “سنقول أن هذا التقسيم غير مبرر أخلاقيا لكننا لا نرى فيه إلا بقاء محكوم عليه بالانقراض ؟” يبرر ” إميل دوركايم ” ذلك بتأكيده على أن تربية أطفالنا لا يجب ان تبقى رهينة للحظ الذي جعلهم يزدادون هنا أو هناك من هؤلاء الآباء وليس من أولئك… لكن وبما أن الوعي الأخلاقي اقتنع بما يكفي بهذه النقطة، فالتربية لا يجب أن تصبح من اجل هذا موحدة.

وبما ان مستقبل كل طفل لا يجب أن يكون محددا سلفا “على الأقل بنسبة كبيرة منه” بوراثة عمياء، نتيجة ذلك فالتعدد الأخلاقي للمهن لن يؤدي إلى تغير بيداغوجي كبير. فكل مهنة تكون وسطا خاصا بها يتطلب قدرات ومهارات خاصة ومعارف نوعية حيث تسود أفكارا واستعمالات خاصة وطرق خاصة كذلك لرؤية الأشياء…، وبما أن الطفل يجب أن يُعَد وفقا للمهنة التي سيكون مطالبا بممارستها، فالتربية لا يجب أن تبقى موحدة لجميع الافراد (خاصة ابتداء من عمر معين).

لهذا يرى ” إميل دوركايم ”  أن التربية في الدول المتحضرة تتجه تدريجيا نحو التعدد والتخصص.و يؤكد” إميل دوركايم ” على أن هذه الأنواع الخاصة من التربية ليست موجهة لغايات فردية، لكن بلا شك قد تؤدي إلى تنمية قدرات خاصة نابعة من الفرد كانت تنتظر فقط فرصة الاستعمال. بهذا المعنى يمكن أن نقول أنها -أنواع التربية- ساعدته على تحقيق طبيعته الخاصة، لكننا نعرف كم أن هذه الميولات الخاصة هي استثنائية جدا.

حيث يضيف” إميل دوركايم ” أن الإنسان ليس مُعَدا سلفا بحكم طبيعته العقلية، أو الأخلاقية لوظيفة محددة. فالإنسان المتوسط مرن بما فيه الكفاية ليشغل وظائف مختلفة. لذلك لو تخصص في وظيفة ما فليس لأسباب تتعلق بطبيعته الفردية، لكن لأسباب اجتماعية تفرض تقسيم العمل بين افراد المجتمع بشكل أو بآخر لضمان التوازن والتناغم الاجتماعي. لذلك فالتربية تتنوع حسب الوظائف التي يقوم بها كل أفراد المجتمع.

يخلص” إميل دوركايم ” في الأخير إلى الطابع الاجتماعي للتربية مبينا أن علم النفس وحده كمصدر غير كاف لعالم التربية.

 فالتربية هي مجال انتقال القيم المجتمعية الإيجابية من جيل إلى آخر، وهذه هي وظيفة المدرسة والمدرس بامتياز.

إن التربية القائمة في مجتمع محدد ومنظور إليها في لحظة معينة من تطورها هي مجموعة من الممارسات وأشكال الفعل والسلوك والعادات التي تشكل مجتمعة وقائع تامة التحديد ولها نفس حقيقة الوقائع الاجتماعية الأخرى. هذه الوقائع، ومهما تكن الاختلافات التي فيما بينها، تشترك في طابع أساسي كونها تنتج جميعا عن التأثير الذي يمارسه جيل الراشدين على آخر ناشئ بهدف إعداده للتكيف مع الوسط الاجتماعي الذي هو معد للعيش فيه.

إن علم التربية، في منظور ” إميل دوركايم ” ، لا يمكن أن يكون إلا سوسيولوجيا بامتياز.

فمن أي جهة ننظر منها إلى التربية، فهي تتقدم نحونا دائما بنفس الطابع الاجتماعي، فسواء تعلق الأمر بالأهداف التي تنشدها أو بالوسائل التي تستعملها، فهي دائما تستجيب لضرورات اجتماعية وتعبر عن أفكار ورغبات اجتماعية كذلك. .”1

و يمكننا تلخيص الأفكار التربوية ل” إميل دوركايم ”  في أربع نقاط رئيسية:

    • كل نظام تربوي عبارة عن مؤسسة اجتماعية، فمن خلال التحليل التاريخي لهذا النظام يتبين أن البنية الاجتماعية هي المحددة و المسؤولة عن تأسيسه و استمراريته و تغيره و مسؤولة عن مضامينه و أشكاله.
    • إن الغاية التي يهدف إليها النظام التربوي هي التنشئة و التي تتحدد تخصصاتها من خلال البنية الاجتماعية كذلك.
    • إن هذا التلازم بين البنية الاجتماعية و النظام التربوي ليس مطلقا لوجود نوع من الاستقلالية النسبية الذاتية لهذا النظام.
    • يعتبر هذا النظام التربوي أداة في الصراع الإيديولوجي و التي تختلف فعاليته تبعا للفترات و اللحظات التاريخية.

نقد  نظرية ” إميل دوركايم “:

رغم أن ” إميل دوركايم ”  كان يبحث بجدية عن بناء تصور سوسيولوجي عملي بديل للظاهرة التربوية ينأى بها عن التصورات الفلسفية المثالية لمن سبقه من المفكرين…، فقد ظل هو نفسه وإلى حد ما مرتبطا في مشروعه بإطار قيمي معياري أخلاقي. إلا أن ذلك لا ينزع عن ” إميل دوركايم ”  فضل السبق التاريخي في تحليله للوقائع التربوية ضمن مشروعه النظري السوسيولوجي العام.

من أهم الانتقادات التي وجهت لنظريته :

1- نزعته المحافظة أي تأثره بظروف عصره وقد كتب” إميل دوركايم ” خلال فترة تفكك اجتماعي

2- لقد اتهم” إميل دوركايم ” بالمادية عندما نادى بان الظواهر الاجتماعية يجب أن تدرس كأشياء و نفس الشيء قام به في مقاربته السوسيولوجية عن ظاهرة التربية

3- انه تحمس أكثر من اللازم لسوسيولوجيته وتغالى في تفسير الحقيقة الاجتماعية بحقيقة اجتماعية أخرى واشترط في استبعاده بعض المؤثرات الأخرى في الحياة الاجتماعية.

خاتمة:

حولنا في بحثنا هذا عرض تصور ” إميل دوركايم ”  وموقفه من التربية. ذلك الموقف الذي يربط بشكل وثيق بين التربية والمجتمع حيث أن النسق التربوي لا يمكن أن تكون له وظيفة إيجابية إذا مارسناه بشكل مستقل عن الممارسات الموجودة داخل المجتمع. لذا يرى ” إميل دوركايم ”  أن الشكل التعليمي والتربوي ليس ثابتا وإنما هو متغير بتغير حاجات المجتمع.

 إن غاية التربية  عند” إميل دوركايم ” اجتماعية في أساسها ولها صلة قوية بالتماسك الاجتماعي. فالتربية عنده مؤسسة اجتماعية عاملة من أجل تحقيق الاتفاق الاجتماعي ومن أجل التكامل الاجتماعي، وذلك من خلال تنشئة الأطفال على السجايا والشمائل الشخصية وأنماط السلوك المقبولة من لدن الجماعة التي ينتسبون إليها، وذلك أن المجتمع لا يستطيع البقاء إلا إذا تحققت بين أعضائه درجة كافية من التناظر والتجانس والتربية هي التي تخلد هذا التجانس وتعززه عن طريق التشابهات الجوهرية التي تتطلبها الحياة الجماعية من الأطفال منذ البداية.

 ويقر دوركايم بضرورة أن تتوافق التربية تماما مع تقسيمات المجتمع إلى طبقات، والإقرار بهذا الأمر كواقع ينبغي التعايش معه، وأن تتجاوب التربية لطبيعته.   إن مفهوم علم التربية، عند ” إميل دوركايم ” ، يبدو واضحا والذي يتجلى دوره في معرفة وفهم ما هو موجود، وهذا المفهوم لا يمكن دمجه مع أنشطة المربي، ومع البيداغوجيا التي توجه هذه الأنشطة. فهو يعد البيداغوجيا بأنها نظرية تصور للتربية تستمدُّ مفاهيمَها من عِلْمِ النَّفس وعلم الاجتماع، بحيث يرى أن علم النفس هو الوحيد الذي يمكن من الإجابة على الأسئلة: لماذا يحتاج الطفل إلى التربية، ما الذي يميزه عن المراهق؟ كيف يتكون ويتطور فكره، ذاكرته، خياله، إحساسه، وإرادته؟ أما علم الاجتماع هو الذي يمكن من جعل الفرد اجتماعيا، وخلق التجانس بين الأفراد، لأن المجتمع، في نظره، هو امتداد للمدرسة.

ويرى الكثيرين من المنتقدين لهذه النظرية بأنها تقف خلفها أهداف مضمرة مضمونها يتنافى مع قواعد اللعب الديمقراطي المبنية أساسا على الحرية والمساواة والمهام التنموية ومتطلبات الشعوب العادلة والمشروعة، يهدف إلى ثبات وديمومة الوضع الوسائد ومحاباة النخب الحاكمة و الصفوة.

قائمة المراجع و المصادر :

    1. بدر ،يحيى مرسي ,علم الاجتماع مقدمة في سوسيولوجيا المجتمع ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ,الإسكندرية ,2008م .
    2. محمد عاطف غيث، علم الاجتماع النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة ، القاهرة، 1966
    3. إميل دوركايم ، التربية و المجتمع ،ترجمة علي سعيد وطفة، دار معد للطباعة و النشر و التوزيع، ط الخامسة، دمشق، 1996
    4. Emile Durkheim, éducation et sociologie, 1éme Ed de la nouvelle Ed, 1922
    5. Mohamed Cherkaoui, socialisation et conflit, les système éducatifs et leur histoire selon Durkheim, Revus Française de sociologie, 1976

 [1] بدر ،يحيى مرسي، علم الاجتماع مقدمة في سوسيولوجيا المجتمع، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2008، ص 75 .

1 Emile Durkheim, éducation et sociologie, 1ere Ed de la nouvelle Ed, 1922, p. 61.

1 محمد عاطف غيث، علم الاجتماع النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة ، القاهرة، 1966، ص 154.

2 Emile Durkheim, éducation et sociologie, 1ere Ed de la nouvelle Ed, 1922, p. 55.

 1 Emile Durkheim, op. cit., p. 69.

2 Emile Durkheim, op. cit., p. 93.

 1 Emile Durkheim, op. cit., p. 96.

1 Emile Durkheim, op. cit., p. 105.


  إميل دوركايم و المقاربة الوظيفية في علم الاجتماع التربوي امحمد أعويش   2016/06/12   تربية ,  دراسات  37٬722 قراءة. 1- مقدمة: ولد إميل دورك...